فصل: تفسير الآيات (165- 167):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (165- 167):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
الند: المماثل جمعه انداد. السبب، وجمعه أسباب: أصل معناه الجبلُ ثم أصبح يطلق على كل ما يُتوصل به إلى مقصد من المقاصد. الكرة: العودة. الحسرة: شدة الندم.
بعد أن بين الله تعالى ظواهر الكون الدالة على قدرة الخالق وعظمته يقول هنا: رغم هذه الدلائل الواضحة، والآيات البيّنات اتخذ بعض الناس ممن ضلت عقولهم أرباباً متعددة غير الله، وجعلوهم اندادا له يطيعونهم ويعبدونهم ويحبونهم كحب المؤمنين لله، وقد يكون هؤلاء الأرباب من ؤسائهم الذين يتبعونهم ويتعلقون بهم، وقد يكونون احجاراً أو أشجارا، أونجوما وكواكب، أو ملائكة وشياطين، أو حيوانات وهذا شرط عظيم.
والذين آمنوا أشد حباً لله من كل ما سواه. والتعبير هنا بالحب جميل فوق انه صادق. فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب والانقياد التي لا تنقطع، فهو يلجأ إلى الله دائما عد كل شدة أو نائبة.
ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك ما سينالهم من العذاب يوم القيامة، يوم تكون القوة جميعها لله وحده؛ وانهم كانوا ضالين حين لجأوا إلى سواه، ويتحققون من أن الله شديد العذاب لو يرون حين يتبرأ الرؤساء المتبوعين من الذين اتبعوهم، وحينَ تنقطع الأواصر والعلاقات وينشغل كل بنفسه، وتظهر حقيقة الالوهية وكذب القيادات الاخرى وضعفها وعجزها أمام تلك القدرة لندموا أشد الندم.
{وَقَالَ الذين اتبعوا...} وسيقول التابعون، عندما يتبين لهم أنهم كانوا مخدوعين، ليت لنا رجعة إلى الدنيا حتى نتبع سبيل الحق، ونتبرأ من هؤلاء الضالين المضلين كما تبرأوامنا. عند ذلك تبدو لهم أعمالهم السيئة فتكون حسراتٍ عليهم وندامة، ما هم بخارجين من النار.

.القراءات:

قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب {ولو ترى الذين ظلموا} بالتاء، خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم. ولو ترى ذلك لرأيت امرا عظيماً. وقرأ ابن عامر {اذ يُرون العذاب} على البناء للمفعول. وقرأ يعقوب {ان القوة لله} بكسر همزة ان.

.تفسير الآيات (168- 170):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}
خطوات الشيطان: آثاره وطرقه. السوء. الاثم. ما يسوء وقوعه أو عاقبته. الفحشاء: كل ما يَفحُش قبحه في أعين الناس. الفينا: وجدنا.
هذا نداء للناس جميعاً يدعوهم الله فيه فيقول: كلوا مما أحللتُ من الاطعمة على لسان رسولي اليكم، وهوكل طعام ما لم يكن ميتة أو دماً مسفوحا أو لحم خنزير أو ما أُهلّ به لغير الله. ما عدا هذا فهو حلال لكم. دعُوا طرائق الشيطان ومسالكه فانه عدو لكم، فهو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرض على ارتكاب الجرائم والآثام.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وافساده: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء} فهو يزين لكم ماهو سيء في ذاته، وتسلط عليكم كأنه آمر مطاع يدفعكم لأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم ويخرب عليكم آخرتكم. وهو يأمركم ان تقولوا على الله في دينه ما للا تعلمون، فتحرّمون ما أباح الله، وتحللون ما حرّم. وفي ذلك كله اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا اقبح ما يأمر به الشيطان.
واذا قيل لهؤلاء الذين اتبعوا خطوات الشيطان وتمسكوا بما توارثوا عن آبائهم في العقيدة والعمل: يا هؤلاء، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي الصادق، وما فيه من هدى ونور مبين، قالوا: لا نعدل عما وجدنا عليه آباءنا. وهكذا تجدهم قد أبطلوا فضل ما خصّ الله به الإنسان من الفكر. ذلك ان الله ميز الإنسان بالعقل ليعرف الحق من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الأفعال. فلما حيث الناسَ على تناول الحلال الطيب ونهاكم عن متابعة الشيطان، وجانبَ الكفار الرشاد باتباعهم الآباء والأجداد قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} وهذا منتهى الذم والتوبيخ، فكيف يتبعون ما أَلْفوا عليه آباءهم وهم لا يعقلون!!

.القراءات:

قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر {خطوات} بتسكين الطاء.

.تفسير الآية رقم (171):

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
المثل: الصفة والحال. نعق: صاح.
بعد نعى سبحانه وتعالى على الكفار سوءَ حالهم وتقليدَهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه اعقب ذلك برسم صورة زرية لهذا الجمود، فصّور البيهمة السارحة التي تسمع صياح راعيها ولكنها لا تفهم ما يريد. وهذا مثلُ الكافرين في تقليدهم، وعدم تأملهم فيما يلقى اليهم. هؤلاء الكفار أضل من هذه البهائم، فهم عن الحق صم الآذان، عمي البصائر، خرس الألسنة، لا ينطقون بخير، ولا يصدون عن عقل.

.تفسير الآيات (172- 173):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
الاهلال: رفع الصوت. وما أُهل به لغير الله: ما ذبح لصنم أومعبود غير الله.
يتجه الخطاب هنا إلى المؤمنين خاصة، وليبيّن الله لهم ما حرم عليهم بع أن طلب اليهم أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم. وكان الناس قبل الإسلام فِرقا، فمنهم من حرم معلى نفسه أشياء معينة من الحيوان. وبعض أهل الاديان السابقة يتقربون إلى الله بتعذيب أنفسهم وتحريم بعض المأكولات، واحتقار الجسد، وغير ذلك من ألوان التحريم الذي كان من عند أنفسهم، ومن وضع رؤسائهم.
وقد جعل الله تعالى هذه الأمة وسطاً تعطي الجسد حقه، والروح حقها. فأباح ان نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نتمنع عنه تديُّناً ولا تعذيباً للنفس، ولا نحرم بعضا ونحلل بعضا، تقليداً للرؤساء والحاكمين فقال: يا أيها الذين آمنوا أبيحَ لكم أن تأكلوا من الطعام الطيَب فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات، ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره انت كنتم تعبدونه حقا. وسأبيّن لكم المحرم عليكم فلا تسمعوا للمشركين وما حرّموا، ولا لما زعمه اليهود وغيرهم. ان المحرم عليكم هو ما مات من الحيوان ولم يذبح، فالميتة مؤذية للجسم. ونحن نعرف ان ما يموت بشيخوخة أو مرض يكون موته بسبب مواد سامة ضارة عجز جسمه عن دفع أذاها. اما في حال الاختناق أو الحرق والغرق فان الدم تتكون فيه مواد ضارة كثيرة.
والدم حرام عليكم أيضا: وكان العرب يأكلونه ويقدمونه لضيوفهم. كانوا يقصدون الحيوان ويحشون ما يسيلمن عِرقِه في مصران يشوونه ثم يأكلونه، وربما شربوا الدم طلباً للقوّة، فحرمه الله.
ولحم الخنزير: لأنه ضار وناقل للكثير من الأمراَ الخطيرة، ولاسيما في البلاد الحارة.
وما أُهل به لغير الله: كان العرب يذبحون القرابين لأصنامهم وآلهتهم ويرفعون أصواتهم باسم آلهتهم. وهذاشرك وكفر.
ثم يضع قاعدة جليلة هي اباحة هذه الممنوعات عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات. ولذلك قال تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} فمن أُلجئ إلى أكل شيء مما حرم الله بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك جوعاً، ولم يكن راغباً فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم.

.تفسير الآيات (174- 176):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
الضلالة: ضد الهدى. الباطل: الهلاك. الهدى: الرشاد. الشرائع التي أنزلها الله على لسان انبيائه. الشقاق: العداء. التنازع.
يعود الحديث هنا في الحملة على الذين يخفون الحقائق، وقد جادل اليهودُ كثيراً في ما أحلّ الله للمؤمنين، كما كتموا ما تورده كتبهم من أمر النبي ونبوّته.. كل ذلك لقاء عَرَض من أعراض الدنيا، فما جزاؤهم؟ انهم لا يأكلون من ذلك العرض الا سبباً لدخول النار، فهي التي تملأ بطونهم يوم القيامة، وسوف يُعرِض الله عنهم يوم القيامة ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة، ولهم عذاب شديد موجع. ذلك بأنهم تركوا الهدى الواضح الذي لا خلاف فيه، واتبعوا الضلال، واشتروا العذاب بالمغفرة. بذلك كانوا هم الجناة على أنفسهم، فما أصبرهم على حر جهنم! لقد جاء الكتاب بالحق لكنهم انكروه، ومن غالب الحق غلبه الحق، وبقي هو في نزاع كبير فلا يهتدي إلى الحق ابدا.
وكتمان الحق يتناول كل إنسان من أية ملة كان، يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، فهو حكمٌ عام مستمر في كل مكان وكل زمان.

.تفسير الآية رقم (177):

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
البر: الصلة، يقال بَرَّ رحمه إذا وصلها. والخير، والاتساع في الاحسان، والطاعة والصدق، وهو جماع الخير، والاخلاق الحسنة وما ينشأ عنها من أعمامل صالحة يتقرب بها العبد إلى ربه، أما بالنسبة إلى الله فهو الثواب والرضا والمحبة الآلهية.
المساكين: مفرده مسكين وهو الذي لا يستطيع العمل، ولا يفطن أحد له لانه لا يسأل الناس. ابن السبيل: هو المسافر إذا انقطع فلا يجد ما يوصله إلى بلده. السائلين: الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، فاضطروا إلى التكفف. في الرقاب: تحرير العبيد واعانتهم على فك رقابهم. البأساء: الشدة. الضراء: كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهنل أو مال. حسن البأس: وقت الحرب.
وهذه أجمع الآيات في تحديد معنى البر من النواحي الواقعية. فهي ترشد إلى ان البر لا يرتبط بشيء من المظاهر والصور والأشكال، واما بالحقائق ولب الأمور وروح التكاليف. كما ترشد إلى ان البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير: برٌّ في العقيدة، وبر في العمل، وبر في الخُلق.
يعلمنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ان الخير ليس في الجدل في أمور لا تجدي، ولا هو متعلق بالتوجه إلى المشرق أو المغرب في صلاة مظهرية جوفاء، كلا، وانما هو أولاً الإيمان بالله في ربوبيته ووحدانيته؛ والايمان باليوم الآخر، حيث تتم المحاسبة على ما جنته الجوارح وما في القلوب والضمائر. بيد ان الايمان بالله واليوم الآخر لا يمكن للعقل البشري ان يصل اليه مستقلاًّ بل لابد من واسطة تدلنا عليه. وهي من ثلاثة عناصر: الملائكة الذين يتلقون عن الله مباشرة، والأنبياء الذين يتلقُّون عن الملائكة، والكتاب الذي يتلقونه ويبلّغون ما فيه من أحكام وتشريعات. وقد عبر الله عنها بالكتاب اشارة إلى وحدة الدين عد الله. هذه الأمور الخمسة هي البر في العقيدة: الايمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
أما البر في العمل فله شُعب كثير ترجع كلها مهما تنوعت إلى بذل النفس والمال ابتغاء مرضاة الله، وادخال السرور على خلق الله. والعمل هو مَدَدُ العقيدة وفي نفس الوقت ثمرتها، يحفظها وينمّيها، ويدل عليها. وقد ذكرت الآية بذل النفس في أعظم مظهر له، ذلك هو اقامة الصلاة. فالصلاة هي عماد الدين، والفارق بين المؤمن وغيره. انها مناجاة العبد لربه، والناهية عن الفحشاء والمنكر، والعاصمة من الهلع والجزع. هذه هي الصلاة إذا اقامها المرء على حقيقتها، فوقف بين يدي ربه وقد خلع نفسه من كل شيء في دنياه، وسلّم لله أموره ونسي ما عداه. بذلك يكون قد بذل نفسه لله، ووضعها بين يديه، فجاءت صلاته عهداً حقيقياً بينه وبين ربه.
ثم بين الله تعالى في الآية بذل المال في وصرتين، أحدهما قوله تعالى: {وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب} والثانية قوله تعالى: {الزكاة} ويجب ان يفهم هنا بمقتضى هذا الوضع القرآني الكريم ان الزكاة المفروضة شيء، وان ايتاء المال لهؤلاء الأصناف المذكورة شيء آخر لا يندرج في الزكاة ولا تغني عنه الزكاة.
وقد قدّم الله تعالى الكلام في بذل المال لسد حاجة المحتاجين، ودفع ضرورة المضطرين، وقيام بمصالح المسلمين وحث عليه وأكده لأنه هو البر الحقيقي. اما الزكاة فهي فرض من الفروض الواجبة على المسلم يؤديها طبقا لشروطها. فاذا لم يقم الاغنياء والقادرون ببذل المال على هذا الوجه واكتفوا بدفع الزكاة فقط فإنهم ليسوا على البر الذي أراده الله من عباده. وهذا أصل عظيم في تنظيم الحياة الاجتماعية يباح به لمن يولِّيه المسلمون أمرهم ان يشرّع الوانا من الضرائب إذا لم تفِ الزكاة بحاجة الأفراد والمجتمع.
{وَآتَى المال على حُبِّهِ} أي بذَلَه رغم فطرة حب المال عند الانسان، وبذلك يبرز معنى الايثار {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] و{وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وقد قال صلى الله عليه وسلم «أفضل الصدقة ان تصَّدق وأنت صيح شحيح ت خشى الفقر وتأمل المغنى» أخرجه البخاري عن أبي هريرة.
ذوي القربى: الأقرباء المحتاجين، وهم أحق الناس بالبر. وقد ورد في الحديث: «ان الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة».
واليتامى: وهم الصغار فقدوا آباءهم وليس لهم عائل يرعاهم. وقد عني الإسلام بأمر اليتيم والحث على تربيته والمحافظة على نفسه وماله إذا كان له مال. وقد ظهرت عناية القرآن الكريم بشأن اليتيم منذ ان نزل إلى ان انقطع الوحي، وستمر بنا آيات كثيرة في ذلك. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «خير بيتٍ في المسلمين بيت فيه يتيم يحسَن اليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء اليه».
والمساكين: هم الذين لا يستطيعون العمل، ولا يفطن الناس اليهم لأنهم لا يسألون. وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به الطريق فلا يوصله إلى اهله. والسائلين: الذين الجأتهم الحاجة إلى السؤال، فاضطروا إلى التكفف. وفي الرقاب: أي لتحرير الأرقاء. والاسلام أول دين شرّع (العتق). لقد حث على تحرير العبيد ولم يشرع الرق، لأن هذا كان موجودا منذ أقدم العصور. لذا جعل من مصارف الزكاة انفاقها في الرقاب، أي فكاك الاسرى، وعتق الرقيق. ولقد حث الرسول الكريم في كثير من وصاياه وأحاديثه على الرفق بالرقيق والعمل على تحريرهم.
والبر في الخُلق هو المبدأ الثالث في هذه الآية العظيمة: وهو يشمل مبدأ القيام بالواجب، وقد جاء التعبير عنه قوله تعالى: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ}، ومبدأ مقاومة الطوارئ والتغلب على عقبات الحياة كما جاء في قوله تعالى: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس} والعهد لفظٌ شامل يجمع ألوانا من ارتباطات والتزامات لا غنى للناس عنها، ولا استقامة للحياة بدونها.
وهي على كثرتها ترجع إلى واحد من ثلاثة: عهد بين العبد وربه، وعهد بين الإنسان وأخيه، وعهد بين دولة ودولة. اما مبدأ المقاومة فقد عبر عنه تعالى بقوله: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس}، الصبر كما قدمنا الكلام عنه في شرح {استعينوا بالصبر والصلاة} هو عدة النجاح في الحياة، والسبيل الوحيد للتغلب على جميع الصعاب. وقد ذكر سبحانه هنا ثلاث حالات هي ابرز ما يظهر في الهلع: البأساء، والضراء وحين البأس. وقد تقدم تفسيرها.
هذه عناصر البر في العقيدة والعمل والخلق، تحدثت عنها هذه الآية الكريمة، وختمت حديثها بحصر الصدق والتقوى فيمن اتصف بهذه المبادئ من المؤمنين، {أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون}، فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صدقوا في ايمانهم.
وهذه الآية دستور شامل عظيم.

.القراءات:

قرأ حمزة وحفص {ليس البر} بالنصب والباقون {ليس البر} بالرفع. وقرأ نافع وابن عامر {ولكن البر} بتخفيف لكن ورفع البر.